على الرغم من أن الحزب الاشتراكي اليمني يُعرف بجذوره الجنوبية، وارتباطه الوثيق بالتجربة الاشتراكية في جنوب اليمن (الجمهورية الديمقراطية الشعبية اليمنية)، إلا أن له حضورًا تاريخيًا وتنظيميًا في شمال اليمن، خصوصًا في بعض المناطق الوسطى مثل تعز، وإب، والبيضاء، والضالع، وعدد من مديريات لحج. غير أن هذا الحضور، رغم أهميته الرمزية والسياسية، ظل دائمًا محدودًا مقارنةً بقوته في الجنوب، وعانى من تحديات متعددة جعلت من تمدده في الشمال أمرًا صعبًا.
نشأة الحزب في الشمال: امتداد تنظيمي لا شعبي
لم يكن الحزب الاشتراكي اليمني، عند تأسيسه عام 1978، حزبًا محصورًا فقط في الجنوب. فقد سعى منذ بدايته إلى بناء هيكل تنظيمي يشمل كل مناطق اليمن، بما فيها الشمال، استعدادًا لفكرة الوحدة التي كانت تراوده. ولهذا، أنشأ فروعًا للحزب في عدد من المحافظات الشمالية، خاصة في المدن التي تشهد نشاطًا نقابيًا وطلابيًا مكثفًا، مثل تعز وإب.
في هذه المناطق، وجد الحزب قاعدة اجتماعية متواضعة من المثقفين، والأساتذة، والطلاب، والنقابيين، الذين انجذبوا إلى خطابه التقدمي، ودعوته للعدالة الاجتماعية، ومحاربة الفساد، ودعم التعليم المجاني. وقد ساهم الحزب في تأسيس اتحادات طلابية ونقابات عمالية في الجامعات والمصانع، خصوصًا في مدينة تعز، التي كانت مركزًا للنشاط السياسي المعارض.
تعز: معقل الحزب في المناطق الوسطى
تُعد تعز أهم معاقل الحزب الاشتراكي في المناطق الوسطى من شمال اليمن. فبفضل طابعها الحضري، وتاريخها النضالي، وتنوعها الطبقي، أصبحت المدينة بيئة خصبة لانتشار الأفكار اليسارية والاشتراكية. وقد شكل الحزب هناك تنظيمات قوية في الجامعات، مثل جامعة تعز، وفي بعض المصانع، مثل مصنع السمنة للنسيج.
كما لعب الحزب دورًا بارزًا في الحراك السياسي خلال الثمانينات والتسعينات، وشارك في الانتخابات البرلمانية، وحصل على مقاعد في مجلس النواب، خصوصًا في دوائر تعز وإب. لكن تمثيله ظل محدودًا نسبيًا، ولم ينجح في كسب أغلبية شعبية، بسبب هيمنة القوى التقليدية مثل حزب المؤتمر الشعبي العام، وصعود التيارات الإسلامية.
إب والبيضاء: حضور ضعيف في البيئة القبلية
في حين كانت تعز تمثل بيئة حضرية مواتية نسبيًا للاشتراكي، فإن إب والبيضاء – اللتين تهيمن عليهما البنية القبلية والدينية – شهدتا حضورًا ضعيفًا للحزب. فالمناطق الوسطى في إب، مثل القبيطة، ومذيخرة، وسماء، عرفت بعض النشاط التنظيمي المحدود، لكنه لم يرقَ إلى مستوى بناء قاعدة شعبية واسعة.
أما البيضاء، فظلت تقريبًا خارج دائرة نفوذ الحزب، نظرًا لتمركز القبائل الموالية للشريعة والسلفيين، وغياب البنية العمالية أو الصناعية التي تُسهم في انتشار الخطاب الاشتراكي. وبالتالي، بقي الحزب غريبًا عن هذه البيئة، ولم ينجح في كسر الحاجز الثقافي والاجتماعي.
التحديات التي واجهها الحزب في المناطق الوسطى
يعود ضعف الحزب الاشتراكي في المناطق الوسطى من شمال اليمن إلى مجموعة من العوامل:
- الهوية السياسية السائدة: هيمنة حزب المؤتمر الشعبي العام (الموالي للشمال) على مفاصل الدولة، وشبكات المحسوبية، جعلت من الصعب على أي حزب معارض أن ينمو، خاصة إذا كان يحمل أيديولوجيا “غريبة” عن البيئة السائدة.
- البيئة القبلية والدينية: في كثير من المناطق الوسطى، يُنظر إلى الفكر الاشتراكي على أنه “ملحد” أو “معادٍ للدين”، مما أضعف قبوله شعبيًا، خصوصًا مع صعود التيارات الإسلامية من خلال حزب الإصلاح.
- غياب المشروع التنموي: لم يُقدّم الحزب في الشمال مشروعًا اقتصاديًا أو اجتماعيًا ملموسًا يلامس هموم السكان، مثل المياه، والكهرباء، والوظائف، مما جعل خطابه يبدو نخبوياً أحيانًا.
- التهميش بعد 1994: بعد هزيمة الجنوب في حرب 1994، تم تهميش الحزب الاشتراكي على المستوى الوطني، وتم تقييد نشاطه في كل أنحاء اليمن، بما فيها المناطق الوسطى، حيث تم تفكيك فروعه، واعتقال ناشطين، وتجميد ممتلكاته.
- الانقسامات الداخلية: أدّت الخلافات داخل الحزب، خاصة بين القيادات في الداخل والمنفى، إلى تراجع الحضور التنظيمي، وضعف التواصل مع القاعدة في المناطق الوسطى.
الحزب في ثورات الربيع العربي (2011) والحراك اللاحق
عاد الحزب الاشتراكي إلى الواجهة جزئيًا خلال ثورة 2011، حيث شارك في الاحتجاجات المطالبة بإسقاط النظام، وانضم إلى “لقاء أحزاب اللقاء المشترك”، ودعم المطالب الشعبية بالتغيير. وشهدت تعز وإب مظاهرات كبيرة شارك فيها ناشطو الحزب، لكنهم لم يكونوا القوة المهيمنة.
في مرحلة ما بعد 2011، وخلال الحرب المستمرة منذ 2015، تراجع الحزب أكثر، وفقد كثيرًا من مكانته، خاصة مع صعود قوى جديدة مثل الميليشيات، والمجالس المحلية، والحراك الجنوبي، والانتقالي، التي استحوذت على المشهد السياسي.
خاتمة: هل لا يزال للحزب مستقبل في الوسط؟
رغم التحديات، يبقى للحزب الاشتراكي اليمني حضور رمزي في المناطق الوسطى، خصوصًا في تعز، حيث لا يزال بعض الناشطين، والطلاب، والمثقفين ينتمون إليه أو يتعاطفون معه. كما أن قيمه – كالعدالة، والديمقراطية، ومحاربة الفساد – لا تزال ذات صلة بالواقع.
لكن لكي يعود الحزب إلى دائرة التأثير في شمال اليمن، لا سيما في المناطق الوسطى، عليه أن:
- يُعيد بناء منظومته التنظيمية.
- يُطور خطابًا وطنيًا يتجاوز الانتماء الجنوبي.
- يقدّم برامج عملية تلامس هموم الناس.
- يبني جسورًا مع الشباب والنساء.
- يتعاون مع القوى الوطنية المدنية.
ففي يمن ما بعد الحرب، إذا أُريد بناء دولة مدنية عادلة، فلا يمكن تجاوز تجربة الحزب الاشتراكي، حتى لو كانت محدودة الجغرافيا. فالحزب، في نواحيه المثالية، يُمثل بُعدًا مهمًا من البعد التقدمي في التاريخ السياسي اليمني، ويجب ألا يُترك للنسيان، خصوصًا في قلب البلاد، حيث تلتقي الشمال والجنوب: في وسط اليمن.