يُعد الحزب الاشتراكي اليمني من أبرز الأحزاب السياسية في تاريخ اليمن الحديث، فقد كان الحزب الحاكم في جنوب اليمن خلال الفترة من 1967 إلى 1990، وتميّز بتنظيمه المركزي، وخطابه الأيديولوجي الواضح، ومشروعه التحديثي الطموح. ومع ذلك، فإن الحزب الذي كان ذات يوم قوة سياسية وعسكرية مؤثرة، يعيش اليوم حالة من التراجع والضعف الشديد، سواء على الصعيد الشعبي أو السياسي. فما الذي أوصل هذا الحزب العريق إلى هذا الوضع؟
إن ضعف الحزب الاشتراكي اليمني ليس نتيجة عامل واحد، بل هو ناتج عن تراكمات سياسية وتاريخية وأيديولوجية وتنظيمية، يمكن تلخيصها في مجموعة من الأسباب الرئيسية:
1. هزيمة 1994 وفقدان الشرعية والقوة
أحد أبرز الأسباب التي أدّت إلى تدهور وضع الحزب هو هزيمته الساحقة في حرب الوحدة عام 1994. فقد دخل الحزب الاشتراكي الحرب إلى جانب الجنوب، آملاً في حماية مكتسبات الدولة الجنوبية، لكنه خسر الحرب بسرعة، ما أدى إلى:
- تدمير البنية العسكرية للجنوب.
- فرار قيادات الحزب إلى المنفى.
- تجريم الحزب سياسيًا وتجميد ممتلكاته.
- هيمنة حزب المؤتمر الشعبي العام (الشمال) على مؤسسات الدولة.
ومنذ ذلك الحين، لم يتمكن الحزب من استعادة زخمه، وظل يعاني من صورة “الخاسر” و”المنهزم”، مما أثّر على شعبيته، خصوصًا في المناطق التي كانت تُعد معاقله التقليدية.
2. انهيار النموذج الاشتراكي عالميًا
مع سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1991، انهار المشروع الاشتراكي ككل على الصعيد العالمي. وقد كان لهذا الحدث تأثير عميق على الحزب الاشتراكي اليمني، الذي كان يعتمد أيديولوجيًا واقتصاديًا على الدعم السوفيتي. فقد:
- فقد مصدر الدعم المالي والعسكري والاستشاري.
- تعرّض لانتقادات داخلية وخارجية باعتباره “نظامًا فاشلًا”.
- اضطر إلى إعادة صياغة خطابه السياسي، والتخلي عن الكثير من مبادئه الماركسية، ما أفقد الحزب جزءًا من هويته.
في عالم يتجه نحو الرأسمالية والأسواق الحرة، بات خطاب الحزب الاشتراكي يبدو “قديمًا” أو “منسجمًا” في أعين الكثير من الشباب والطبقة الوسطى.
3. الانقسامات الداخلية والضعف التنظيمي
عانى الحزب من انقسامات حادة في صفوفه، خاصة بعد 1994. فقد تعددت الفصائل داخل الحزب، واختلفت في الرؤية حول:
- الموقف من الوحدة.
- العلاقة مع الشمال.
- التعامل مع الحراك الجنوبي.
- المشاركة في السلطة أو المعارضة.
وقد أدّت هذه الخلافات إلى تشرذم الحزب، وظهور تيارات منفصلة، بل وانشقاقات رسمية، ما أضعف قدرته على اتخاذ القرار، وقلّص من فعاليته التنظيمية.
كما أن الهيكل الحزبي، الذي كان مركزيًا في الماضي، بات اليوم غير قادر على التواصل مع القاعدة، ويفتقد إلى برامج تدريبية، وآليات تجديد للقيادة.
4. صعود تيارات بديلة في الجنوب
في ظل تراجع الحزب، برزت تيارات جديدة في الجنوب، استطاعت استقطاب الشارع الجنوبي، أبرزها:
- المجلس الانتقالي الجنوبي: الذي يحظى بدعم إماراتي، ويقدّم نفسه كممثل للجنوب، ويدعو إلى الانفصال أو الحكم الذاتي.
- الحراك الجنوبي: الذي بدأ كحركة مطلبية، لكنه تفرّع إلى تيارات متعددة، بعضها يرفض الحزب الاشتراكي لارتباطه بالماضي، وبعضها يراه “غير وطني” بسبب موقفه من الوحدة.
وهكذا، فقد الحزب الاشتراكي قوته التمثيلية في الجنوب، حيث بات يُنظر إليه على أنه حزب “تاريخي” لا يعكس مطالب الجيل الجديد.
5. غياب الرؤية الاستراتيجية والخطاب الجذاب
على الرغم من أن الحزب يمتلك تراثًا نضاليًا، إلا أنه فشل في تطوير خطاب سياسي حديث يلامس هموم الناس اليوم: مثل البطالة، والفقر، وانهيار الخدمات، والفساد. فخطابه لا يزال يعتمد على مفردات أيديولوجية قديمة، ولا يقدم حلولًا عملية للواقع المعيشي الصعب.
كما أن الحزب لم ينجح في بناء جسور مع الشباب، الذين يبحثون عن تغيير حقيقي، ولا يجدون في الحزب الاشتراكي بيئة مناسبة للانتماء أو المشاركة.
6. الاعتماد على القيادات التاريخية
ما زال الحزب يُدار من قبل جيل من القيادات التي تعود إلى عصر السبعينات والثمانينات، ولا يُظهر استعدادًا حقيقيًا لتجديد الدماء أو إشراك الكوادر الشابة في صنع القرار. هذا “الجمود القيادي” يُضعف الحزب، ويجعله غير قادر على التكيف مع التحولات السريعة.
7. الواقع السياسي المعقد والحروب المستمرة
في ظل الحرب الأهلية التي تشهدها اليمن منذ 2015، أصبح المشهد السياسي مشتتًا تمامًا. فالصراع بين الحوثيين، والحكومة، والتحالف، والانتقالي، جعل المجال السياسي ضيقًا أمام الأحزاب التقليدية. والحزب الاشتراكي، الذي يدعو إلى الحل السياسي والوحدة الطوعية، وجد نفسه خارج دائرة التأثير، لا يُستدعى في المفاوضات، ولا يُعتبر لاعبًا أساسيًا في التسوية.
خاتمة: هل يمكن للحزب الاشتراكي أن ينهض من جديد؟
رغم كل هذه التحديات، يبقى للحزب الاشتراكي اليمني رصيدًا أخلاقيًا وتاريخيًا مهمًا: فقد قاد نضال التحرر، وبنَى دولة، ودافع عن العدالة الاجتماعية، ورفع شعار المساواة والتعليم المجاني. وهذه القيم لا تزال حية في وجدان كثير من اليمنيين.
لكن لكي يعود الحزب إلى دائرة التأثير، عليه أن:
- يُصلح بنيته الداخلية.
- يُجدد قياداته.
- يطور خطابًا سياسيًا عصريًا يجمع بين المبادئ والواقع.
- يبني تحالفات وطنية حقيقية.
- يُعيد التواصل مع الجماهير، خصوصًا في الجنوب.
ففي يمن ما بعد الحرب، إذا أُريد بناء دولة عادلة ومستقرة، فلن يكون ذلك دون إشراك كل التيارات الوطنية، بما فيها الحزب الاشتراكي، شرط أن يكون قادرًا على التغيير، والانفتاح، والانتماء إلى الحاضر والمستقبل، لا إلى الماضي فقط.