الحزب الاشتراكي في اليمن: مسار أيديولوجي في قلب التحولات السياسية

يُعد الحزب الاشتراكي اليمني من أبرز الأحزاب السياسية في تاريخ اليمن المعاصر، ليس فقط لدوره الريادي في بناء الدولة في الجنوب، بل أيضًا لكونه أول حزب ذو توجه أيديولوجي واضح في البلاد. نشأ الحزب في بيئة معقدة من التحولات الاجتماعية والسياسية، وارتبط ارتباطًا وثيقًا بتجربة الحكم في جنوب اليمن قبل الوحدة، ثم شكل لاحقًا أحد الأقطاب الرئيسية في المشهد السياسي بعد اتحاد شطري اليمن عام 1990. يُنظر إليه اليوم كرمز للتيار اليساري في اليمن، رغم التحديات الكبيرة التي واجهها على مدى العقود الماضية.

نشأة الحزب الاشتراكي اليمني: من حركة تحرر إلى حزب حاكم

تنبع جذور الحزب الاشتراكي اليمني من الحركة الوطنية التحررية في جنوب اليمن، التي نشطت ضد الاستعمار البريطاني في جنوب الجزيرة العربية. وقد تأسس الحزب في 24 أكتوبر 1978، كتطور طبيعي لتنظيمات سياسية سابقة، أبرزها “الجبهة القومية” التي قادت النضال المسلح ضد الحكم البريطاني، والذي انتهى بخروج البريطانيين من عدن عام 1967.

بعد الاستقلال، أُعلنت الجمهورية الديمقراطية الشعبية اليمنية (جنوب اليمن)، التي أصبحت الدولة العربية الوحيدة التي اعتمدت النظام الاشتراكي كنظام رسمي للحكم. وفي هذا السياق، تم تأسيس الحزب الاشتراكي اليمني ليكون الحزب الحاكم الوحيد في الجنوب، مستلهمًا نماذج اشتراكية من الاتحاد السوفيتي، ويوغوسلافيا، والصين، مع تكييفها وفقًا للواقع اليمني.

تجربة الحكم في الجنوب (1978–1990): بين الإصلاحات والقمع

خلال فترة حكمه للجنوب، سعى الحزب الاشتراكي إلى بناء دولة اشتراكية حديثة، تقوم على مبادئ العدالة الاجتماعية، والتعليم المجاني، والرعاية الصحية، وتوزيع الثروة. وتم تأميم وسائل الإنتاج الرئيسية، وتطبيق سياسات زراعية وإصلاحات أرضية، كما تم تعزيز دور المرأة في المجتمع، وفتح المجال أمام الطبقة العاملة والفقيرة في التعليم والوظائف.

لكن هذه التجربة لم تخلُ من التحديات. فقد اتسم الحكم بمركزية شديدة، وقمع معارضات سياسية داخلية، وحدوث صراعات داخلية بين فصائل الحزب، أبرزها “أحداث يناير 1986” الدامية في عدن، والتي أدّت إلى مقتل المئات من قادة الحزب ورجال الدولة، وخلّفت أثرًا عميقًا في بنية الحزب وقوته السياسية.

الوحدة اليمنية ودور الحزب الاشتراكي (1990–1994)

في 22 مايو 1990، تم الإعلان عن وحدة اليمن بين الجمهورية العربية اليمنية (شمال اليمن) بقيادة علي عبد الله صالح، والجمهورية الديمقراطية الشعبية اليمنية (جنوب اليمن) بقيادة علي سالم البيض، الذي كان الأمين العام للحزب الاشتراكي. وشكل الحزب الشمالي والجنوبي حكومة ائتلافية، حيث تولى البيض منصب نائب الرئيس.

لكن الوحدة سرعان ما تصدعت بسبب خلافات سياسية واقتصادية وعسكرية عميقة بين الشريكين. فبينما كان الحزب الاشتراكي يسعى لبناء دولة مركزية ديمقراطية، كان حزب المؤتمر الشعبي العام (التابع للشمال) يتمتع بنفوذ أكبر في المؤسسة العسكرية والإدارية. وقد اندلعت حرب الوحدة في أبريل 1994، والتي انتهت بهزيمة قوات الجنوب، وفرار قيادات الحزب الاشتراكي إلى الخارج، وفرض سيطرة المؤتمر الشعبي العام على كامل اليمن.

مرحلة ما بعد الحرب: التهميش والمنفى والعودة

بعد 1994، تعرض الحزب الاشتراكي لقمع شديد، وتم تجريم نشاطه السياسي لفترة، كما تم تجميد ممتلكاته، وسُجن العديد من قياداته. ومع ذلك، ظل الحزب نشطًا في الشتات، وحافظ على شبكات تنظيمية في الجنوب، وواصل دعوته لإعادة النظر في بنية الدولة، وتحقيق العدالة بين الشمال والجنوب.

في عام 2005، عاد الحزب إلى الساحة السياسية رسمياً بعد تسوية سياسية، وشارك في انتخابات 2006، حيث دعم مرشح المعارضة فارس سعيد منصور، ودخل في تحالفات مع أحزاب اللقاء المشترك. ورغم محدودية نفوذه، ظل الحزب صوتًا مهمًا في الدعوة إلى الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وإعادة بناء الدولة على أسس عادلة.

الحزب الاشتراكي في عصر الحرب الأهلية (2011–الحاضر)

مع اندلاع الحراك الجنوبي عام 2007، ثم الثورة الشبابية عام 2011، عاد الحزب الاشتراكي إلى الواجهة كأحد الأطراف الفاعلة في المشهد الجنوبي. فقد دعم الحراك المطالب بحقوق الجنوب، وشارك في مؤتمر الحوار الوطني، داعيًا إلى نظام فيدرالي يضمن التوازن بين المناطق.

لكن مع تفاقم الأزمة اليمنية واندلاع الحرب الأهلية عام 2015، ودخول التحالف العربي بقيادة السعودية، وبروز الحراك الجنوبي المتنوع، وصعود المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من الإمارات، وجد الحزب الاشتراكي نفسه في موقف حرج. فهو يرفض انفصال الجنوب، لكنه في الوقت نفسه ينتقد هيمنة الشمال، ويعارض التدخلات الخارجية، ويدعو إلى حل سياسي شامل يضمن العدالة والوحدة الطوعية.

التحديات الحالية والمستقبل

اليوم، يواجه الحزب الاشتراكي اليمني تحديات كبيرة، منها:

  • التراجع الشعبي: بسبب سنوات القمع، وضعف الحضور الإعلامي، وبروز تيارات جديدة في الجنوب.
  • التشرذم الداخلي: حيث ظهرت انشقاقات بين قيادات الحزب حول الموقف من الحرب، والتحالفات، ومستقبل الجنوب.
  • البيئة السياسية المعقدة: مع تعدد الأطراف المتنافسة، والتدخلات الإقليمية، يصعب على حزب أيديولوجي مثل الاشتراكي أن يفرض نفسه كلاعب رئيسي.

رغم ذلك، يظل الحزب يمتلك رصيدًا أيديولوجيًا وتنظيميًا، وله تاريخ نضالي، وقاعدة اجتماعية في بعض مناطق الجنوب، خصوصًا بين المثقفين، والنقابات، والشباب المطالب بالتغيير.

خاتمة

الحزب الاشتراكي اليمني ليس مجرد حزب سياسي، بل هو تجربة تاريخية مركّبة، تجسد مسيرة كفاح من أجل العدالة، والوحدة، والحرية. بدأ كحركة تحرر، ثم أصبح حزب حكم، ثم تحول إلى معارضة، ثم إلى صوت للحوار والحلول السلمية. وعلى الرغم من التحديات الجسيمة التي تواجهه، يبقى الحزب رمزًا للتفكير النقدي، والتعددية، والعدالة الاجتماعية في اليمن.

في مستقبل يمني مأمول، لا يمكن بناء دولة عادلة ومستقرة دون إشراك كل الأصوات الوطنية، بما فيها صوت الحزب الاشتراكي، الذي قدّم تجارب، وأخطاء، ودروسًا، تُعدّ جزءًا لا يتجزأ من النسيج السياسي اليمني.

عن مُطلع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *