يُعد الحزب الاشتراكي اليمني من أبرز النماذج السياسية في العالم العربي التي تأثرت بشكل مباشر بالتجربة الاشتراكية السوفيتية، ليس فقط من حيث الفكر والأيديولوجيا، بل أيضًا من حيث الدعم السياسي، والعسكري، والاقتصادي. ففي ظل صعود تيارات التحرر الوطني في منتصف القرن العشرين، وانخراط العالم في صراع الحرب الباردة، أصبحت الجمهورية الديمقراطية الشعبية اليمنية (جنوب اليمن) حليفًا استراتيجيًا للاتحاد السوفيتي، وشكل الحزب الاشتراكي اليمني – كحزب حاكم – القناة الأساسية لهذا التحالف الاستراتيجي.
من الاستعمار إلى الاشتراكية: بيئة حاضنة للتأثر السوفيتي
نشأ الحزب الاشتراكي اليمني في جنوب اليمن، الذي كان تحت الاستعمار البريطاني حتى عام 1967. وقد تأثرت الحركة التحررية الجنوبية بأفكار الماركسية والثورية، التي انتشرت في حركات التحرر في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. وعقب خروج البريطانيين، أُعلنت “الجمهورية الديمقراطية الشعبية اليمنية” كدولة اشتراكية، وأصبحت أول دولة عربية تعلن التزامها بالمسار الاشتراكي.
في هذا السياق، لعب الاتحاد السوفيتي دورًا محوريًا في دعم الدولة الجديدة، ليس فقط كمصدر للإلهام الأيديولوجي، بل كشريك استراتيجي في بناء الدولة والجيش والنظام التعليمي.
الدعم السوفيتي: سياسي، عسكري، اقتصادي، وثقافي
شهدت العلاقات بين الحزب الاشتراكي اليمني والاتحاد السوفيتي تطورًا متسارعًا منذ تأسيس الدولة في الجنوب، وبلغت ذروتها في السبعينات والثمانينات. وقد تجلى هذا الدعم في عدة مجالات:
- الدعم العسكري: قدم الاتحاد السوفيتي أسلحة متطورة، وساعد في تدريب الجيش اليمني الجنوبي، وساهم في بناء القواعد العسكرية، أبرزها قاعدة “عتق” وميناء عدن الاستراتيجي. كما وفر مستشارين عسكريين سوفيتيين لتنظيم المؤسسة العسكرية الجنوبية.
- الدعم الاقتصادي: ساعد الاتحاد السوفيتي في تمويل مشاريع تنموية كبرى، مثل بناء المصانع، وتطوير البنية التحتية، وتأميم وسائل الإنتاج. كما قدّم قروضًا ميسّرة، وساهم في بناء محطات كهرباء، ومصانع الأسمنت، وشبكات الري.
- الدعم السياسي والدبلوماسي: دافع الاتحاد السوفيتي عن جنوب اليمن في المحافل الدولية، واعترف بها كدولة ذات سيادة، ودعم مواقفها في الأمم المتحدة، خصوصًا في قضايا الوحدة العربية، ومحاربة الإمبريالية.
- الدعم الثقافي والتعليمي: أرسل الاتحاد السوفيتي مئات الطلاب اليمنيين للدراسة في جامعات موسكو ولениنغراد وأوديسا، خصوصًا في مجالات الهندسة، والطب، والعلوم السياسية. كما تم تدريب الكوادر الحزبية في مدارس الحزب الشيوعي السوفيتي، مما شكّل جيلًا من القادة المتأثرين بالفكر الماركسي-اللينيني.
الأيديولوجيا: من الماركسية-اللينينية إلى “الاشتراكية اليمنية”
على الرغم من التأثر الكبير بالنموذج السوفيتي، فإن الحزب الاشتراكي اليمني لم يكن تابعًا تمامًا لموسكو. فقد سعى إلى تكييف الأفكار الاشتراكية مع الخصوصية اليمنية، وطرح ما عُرف بـ”الاشتراكية اليمنية”، التي دمجت بين المبادئ الماركسية، والهوية الوطنية، ومقومات المجتمع القبلي.
وقد أكّد قادة الحزب، مثل عبد الفتاح إسماعيل، وأحمد عبيد بن دغر، على استقلالية القرار السياسي، رغم التحالف الوثيق مع الاتحاد السوفيتي. غير أن هذا التوازن كان دقيقًا، ففي بعض الفترات، خشيت موسكو من انزياح الجنوب نحو الصين أو يوغوسلافيا، بينما انتقدت قيادات يمنية في بعض الأحيان “التدخل السوفيتي” في الشؤون الداخلية.
أحداث يناير 1986: تأثيرات داخلية وانعكاسات خارجية
كانت “أحداث يناير 1986” في عدن، التي نتج عنها صراع دموي داخل قيادة الحزب الاشتراكي، نقطة تحوّل كبرى. وقد أثار هذا الصراع قلق الاتحاد السوفيتي، الذي كان يرى في استقرار جنوب اليمن ضمانة لمصالحه الاستراتيجية في البحر الأحمر والقرن الأفريقي. ورغم محاولات موسكو التوسط، إلا أن الصراع أدى إلى هروب قيادات يمنية إلى الخارج، وتراجع النفوذ السوفيتي تدريجيًا.
نهاية الاتحاد السوفيتي وانهيار الحلم الاشتراكي
مع تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991، فقد الحزب الاشتراكي اليمني أحد أهم دعائمه الخارجية. فقد توقف الدعم المالي والعسكري، وتراجعت المصداقية الأيديولوجية للنموذج الاشتراكي في عيون الكثيرين. وفي الوقت نفسه، كانت اليمن على أبواب الوحدة (1990)، ثم الحرب الأهلية (1994)، مما أضعَف موقع الحزب داخليًا.
وقد عبّر بعض قادة الحزب عن حزنهم على سقوط الاتحاد السوفيتي، معتبرين إياه نهاية لفترة من الدعم والتضامن، لكنهم في الوقت نفسه بدأوا إعادة تقييم تجربتهم، والانتقال من الخطاب الثوري إلى خطاب ديمقراطي اجتماعي أكثر مرونة.
الخلاصة: شراكة استراتيجية في زمن التحولات
يمكن القول إن العلاقة بين الحزب الاشتراكي اليمني والاتحاد السوفيتي كانت من أبرز نماذج التحالف بين دولة نامية وعملاق اشتراكي في عصر الحرب الباردة. لم تكن هذه العلاقة مجرد تبعية، بل كانت شراكة تبادلية: فقد وجد الاتحاد السوفيتي في جنوب اليمن شريكًا استراتيجيًا في جنوب الجزيرة العربية، بينما وجد الحزب الاشتراكي في موسكو مصدرًا للدعم، والإلهام، والشرعية الدولية.
اليوم، وبعد أكثر من ثلاثة عقود على سقوط الاتحاد السوفيتي، يبقى هذا التاريخ جزءًا من الذاكرة السياسية لليمن، خصوصًا في الجنوب. فرغم تراجع النفوذ الأيديولوجي للاشتراكية، إلا أن قيم العدالة، والتعليم المجاني، وتكافؤ الفرص، التي دُعمت في عهد الحزب الاشتراكي بفضل الشراكة مع الاتحاد السوفيتي، لا تزال تشكل مرجعًا مهمًا في النقاش حول مستقبل اليمن.
فالحزب الاشتراكي اليمني، في مسيرته، يُمثل تجربة فريدة: حيث حاول بناء دولة حديثة في بيئة تقليدية، مستلهمًا أفكارًا عالمية، ومحطّمًا قيود الاستعمار، بيد أنّه واجه تحديات داخلية وخارجية جعلت من هذه التجربة درسًا في الأحلام، والواقع، والسياسة.