الحزب الاشتراكي وعلاقته بالاتحاد السوفيتي: رؤية تاريخية فكرية

يُعد الحزب الاشتراكي من أهم التجليات السياسية للفكر الاشتراكي الذي نشأ في أوروبا خلال القرن التاسع عشر، كرد فعل على الاستغلال الرأسمالي وتفاوت الثروة في ظل الثورة الصناعية. ومع تطور هذا الفكر، برزت تيارات متعددة داخل الحركة الاشتراكية، تميز بعضها بالانتماء المثالي إلى المبادئ الماركسية، بينما سلك آخرون طريقًا إصلاحيًا أكثر اعتدالًا. وفي هذا السياق، لا يمكن فصل الحديث عن الحزب الاشتراكي عن دور الاتحاد السوفيتي، الذي أصبح رمزًا للدولة الشيوعية الأولى في العالم، ومصدر إلهام – بل ومُوجِّهًا – للعديد من الأحزاب الاشتراكية والشيوعية حول العالم.

نشأة الحزب الاشتراكي وتطوره الفكري

ظهرت الأحزاب الاشتراكية في أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر، مثل الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني (SPD)، الذي كان من أوائل النماذج التنظيمية للحركة العمالية. استندت هذه الأحزاب إلى أفكار كارل ماركس وفريدريك إنجلز، التي دعت إلى إسقاط النظام الرأسمالي وبناء مجتمع قائم على الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج. ومع ذلك، لم تكن جميع الأحزاب الاشتراكية متماسكة في موقفها من الثورة أو من التكتيك السياسي.

في بداية القرن العشرين، ازداد الانقسام داخل الحركة الاشتراكية بين “الثوريين” الذين دعوا إلى الثورة العنيفة لإسقاط الرأسمالية، و”الإصلاحيين” الذين آمنوا بإمكانية تحقيق التحول الاشتراكي عبر الانتخابات والعمل البرلماني. وقد جاءت الثورة البلشفية في روسيا عام 1917 لتُحدث انقلابًا جذريًا في هذا التوازن.

الاتحاد السوفيتي: قيام دولة “الاشتراكية الواقعية”

بعد نجاح لينين وحزب البلشفية في الاستيلاء على السلطة في أكتوبر 1917، تم تأسيس الدولة السوفيتية، التي أصبحت أول دولة تدّعي تطبيق النظام الاشتراكي على نطاق واسع. وقد أعاد لينين هيكلة الحركة الشيوعية العالمية من خلال تأسيس الكومنترن (الانترناشيونال الشيوعي) عام 1919، الذي كان يهدف إلى تنسيق نشاط الأحزاب الشيوعية حول العالم وربطها مباشرة بالقيادة السوفيتية.

هنا بدأ التمايز الواضح بين “الحزب الشيوعي” – الذي يدين بالولاء للاتحاد السوفيتي ويتبنى نهج الثورة والديكتاتورية الانتقالية للبروليتاريا – و”الحزب الاشتراكي” أو “الاشتراكي الديمقراطي”، الذي ظل يؤمن بالعمل السلمي والانتخابي. ومع ذلك، فإن العديد من الأحزاب الاشتراكية، خاصة في البلدان النامية أو تلك التي عانت من الاستعمار، وجدت في النموذج السوفيتي مصدر قوة ودعم.

علاقة الأحزاب الاشتراكية بالاتحاد السوفيتي: دعم، تأثر، وصراع

لم تكن علاقة الأحزاب الاشتراكية بالاتحاد السوفيتي علاقة واحدة، بل تفاوتت حسب الموقع الجغرافي، والظروف السياسية، والتوجهات الأيديولوجية. يمكن تلخيص هذه العلاقة في عدة أبعاد:

  1. الدعم المادي والسياسي: قدّم الاتحاد السوفيتي دعمًا كبيرًا للحركات والأحزاب التي تتماشى مع سياساته، سواء من خلال التمويل، أو التدريب السياسي، أو الدعم الدبلوماسي. ففي العالم العربي، مثلًا، حظيت أحزاب مثل الحزب الشيوعي العراقي أو الحزب الشيوعي اللبناني بدعم معتبر من موسكو، حتى وإن لم تكن جميعها “اشتراكية” بالمعنى التقليدي.
  2. التأثير الأيديولوجي: كان الاتحاد السوفيتي مصدرًا رئيسيًا للتأطير النظري للكثير من الأحزاب الاشتراكية، خصوصًا في مناطق آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. فقد قدّم نموذج “الاشتراكية في بلد واحد” كطريق ممكن للتنمية، بعيدًا عن الرأسمالية الغربية. وقد تبنت بعض الأحزاب هذا النموذج، مثل حزب البعث في سوريا والعراق في مراحل معينة، رغم أن بعثه لم يكن حزبًا شيوعيًا بالكامل.
  3. الانقسامات والخلافات: لم تكن العلاقة دائمًا تعاونية. فقد انتقد العديد من الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا – مثل الحزب الاشتراكي الفرنسي أو الألماني – النظام السوفيتي بسبب انتهاكاته لحقوق الإنسان، وقمعه للحريات، وغياب الديمقراطية داخل الاتحاد السوفيتي. وقد ساهم هذا في تعميق الفجوة بين “الاشتراكية الديمقراطية” و”الشيوعية”.
  4. الاستقطاب خلال الحرب الباردة: في ظل الحرب الباردة، أصبحت الأحزاب الاشتراكية في كثير من الأحيان في موضع حرج، إما أن تنحاز إلى المعسكر الغربي (الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي)، أو تُتهم بالانتماء إلى المحور السوفيتي. وقد أدّى ذلك إلى تهميش بعض الأحزاب أو تفتيتها داخليًا.

ما بعد سقوط الاتحاد السوفيتي: إعادة التفكير

مع انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، شهدت الحركة الاشتراكية العالمية أزمة عميقة. فقد فقدت الأحزاب المرتبطة به مصدر دعمها السياسي والمعنوي، كما تعرّض النموذج السوفيتي للنقد الشديد باعتباره فشلًا في تحقيق العدالة أو الحرية. في المقابل، بدأت أحزاب اشتراكية عديدة، مثل الحزب الاشتراكي الفرنسي أو الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني، في إعادة تعريف نفسها بعيدًا عن أي ارتباط بأيديولوجية ماركسية صارمة، وركزت على العدالة الاجتماعية، وحماية الرفاه، ودمقرطة الاقتصاد، دون إلغاء السوق الرأسمالي.

خاتمة

يمكن القول إن علاقة الحزب الاشتراكي بالاتحاد السوفيتي كانت معقدة ومتشابكة، تراوحت بين التأييد والتأثر من جهة، والنقد والانفصال من جهة أخرى. فقد كان الاتحاد السوفيتي مصدر إلهام للثوريين، ونموذجًا للتنمية البديلة، لكنه في الوقت نفسه شكّل تحديًا لأحزاب اعتقدت أن الاشتراكية يجب أن تكون مرتبطة بالديمقراطية والحريات. اليوم، وفي عالم ما بعد الحرب الباردة، تسعى الأحزاب الاشتراكية إلى التوفيق بين المبادئ الإنسانية للفكر الاشتراكي، وبين واقعيات العولمة والاقتصاد الرأسمالي، مستفيدة من الدروس المستفادة من تجربة الاتحاد السوفيتي، سواء الإيجابية منها أو السلبية.

فالاشتراكية كفكرة إنسانية لا تزال حيّة، ولكنها تتطور، وتبحث عن صيغ جديدة للعدالة، بعيدًا عن الثنائيات القديمة، ومستلهمة التاريخ، دون أن تكون أسيرة له.

عن مُطلع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *